سألت مرة في ندوة علمية من باحث قدم ورقته البحثية التي تستكشف الاتجاه المتزايد نحو استهلاك الأفلام الهندية في العالم العربي: لماذا حظيت وتحظى الأفلام الهندية بشهرة واسعة و تلقيا استثنائيا في العالم العربي خاصة في غربه، مع كونها في اللغة الهندية التي لا ينطق بها العرب ولا يستفهمها، و مع كونها تعكس السياق الهندي الخاص الذي يستغربه العرب، رغم تواجد الأفلام المصرية التي تقترب منهم أكثر بكثير لغويا و ثقافيا و سياسيا و اجتماعيا. أعرب الباحث بأمانة عن جهله السبب، لكن رئيسة الجلسة قالت في تعليقها: من الممكن أن الإباحة و كثرة مشاهد الجنس و العري في الأفلام الهندية تسببت في شهرتها المتزايدة في العالم العربي. تعجبني فرضيتها لكن لم ترقني و لم تشف غليلي بل اضطرتني إلى مزيد من التحقيق في هذا الأمر. فأدت جهودي بهذا الصدد إلى كتابة ورقتي البحث طبعت أولهما باللغة الأردية في مجلة فصلية هندية “فكر و تحقيق” و ثانيهما لم تر النور حتى الان
إن الرئيسة لم تتأكد ما قالت في تعليقها إلا أن بيانها ينم عن الخطأ الشائع لمبدأين رئيسين: أولهما أن الأفلام الهندية تستهلك في الغالب بسبب إثارتها الجنسية و إباحيتها و أنها لا تحمل قيمة جمالية أو قيمة فكرية ثقافية واجتماعية وسياسية لكي ينجذب إليها العرب. و ثانيهما أن العرب مهووس بالجنس و الإباحية بسبب القيود الجنسية الموجودة في المجتمع العرب المحافظ. قبل أن نتسائل هل يحمل هذان المبدأن أي حقيقة و يحاول الإجابة عنه يجب علينا أن نسئل أولا كيف تشكلت هذه الفكرتان
إن كلا الفكرتين لهما أساس في الفكرة الاستعمارية و الاستشراقية و التاريخ في وسعه أن يساعدنا في فهمها. ترجم وليم جونيس في 1788، الدراما الأكثر شهرة للكاتب المسرحي الهندي كاليداس أبهيجناناساكونتالام، إلى الإنجليزية وأعطاها عنوان ساكونتالا. ذكر وليم جونيس في مقدمتها أن المسرحية تعكس “صورة أكثر إمتاعًا وأصالة للأخلاق الهندوسية القديمة”. والجدير بالذكر أن الترجمة المنشورة، وإن كانت مطابقة للأصل، لكنها حذفت بعض الأجزاء من وصف شاكونتالا، باعتبارها مشبعة بالعري و الإثارة الجنسية للغاية بالنسبة للجمهور البريطاني المحافظ للغاية. رغم ذلك، أثارت الترجمة ضجة كبيرة في أوروبا وتم استهلاكها كمواد جنسية إباحية و فتحت أبواب الترجمات من اللغة السنسكريتية إلى الإنجليزية. ترجم ريتشارد فرانسس برتن “كاما سترا” بسرية سنة 1883 إلى الإنجليزية و ذلك بتصرف كبير لتناسب الأذواق البريطانية الفيكتورية المحافظة. وجدت الحركة الرومانسية الاوربية، التي كانت في مهدها، روحًا مشابهة في كاليداس والكتابات الهندية الأخري

يقوم الاتجاه المتزايد نحو الكتابات الهندية الجنسية في العهد الاستعماري بكشف “النظرة الغربية” نحو المجتمعات الهندية. هذا يكشف أيضا عن مهووس الغرب بالجنس بسبب القيود الجنسية في المجتمعات الأوربية في العهد الفيكتوري المحافظ. النظرة الغربية المهووسة بالجنس نحو المجتمعات الهندية المنفتحة جنسيا أوجدت فكرة أن المجتمعات الهندية إباحية و سرت و سادت هذه الفكرة في الوعي الشعبي الغالب وتحكمت في الخطابات الثقافية
وفي جانب أخر، النظرة الغربية المهووسة بالجنس تركزت خاصة في العالم العربي على رجاله و وصفتهم بكائنات جنسية زائدة، مدفوعة بالرغبات الأولية وناقصة في التحكم الذاتي، فاجرة، منحطة الأخلاق؛ هذه النظرة دفعت المستشرقين إلى إبراز الجوانب الجنسية للحياة الإسلامية و العربية كما أنهم ناقشوا الحياة الزوجية للرسول صلى الله عليه و سلم وكثرة أزواجه و زواجه مع عائشة رضي الله عنها عندما كانت في صغر سنها وكذلك تصدرت مباحث تعدد الزوجات و الطلاق وزوجات الملوك العرب في كتاباتهم. فجعل العرب يعرف في الخارج بالحرم و الخيل. كما اعترف العالم السوري محمد بهجة البيطار إنه عندما زار امريكا سئل بكثرة عن خيله و حرمه. الخيل يرمز إلى البداوة و الحرم إلى الذكورية الرجعية و الجنساوية المفرطة
ينطلق من هذه التوضيحات، أن اعتبار الإثارة الجنسية سببا غالبا لشعبية الأفلام الهندية في العالم العربي مبني على الفكر الاستعماري و الاستشراقي الذي ينظر إلى الشرق بنظرته الغربية العنصرية و أن الجنس لن يكن أداة تحليلية لفهم شعبية الأفلام الهندية في العالم العربي

وإلى جانب ذلك، أن الحقائق التاريخية أيضا لا تساند فرضية أن الإثارة الجنسية تفضي إلى شعبية الأفلام الهندية في العالم العربي. شعبية الأفلام الهندية في العرب قديمة و يرجع تاريخها إلى ما قبل انقسام الهند في عقد الأربعينات من القرن العشرين، و لا تمت بصلة بكثير إلى عقد التسعينات من القرن العشرين الذي يمثل عهد البراقة والبهجة والجمال والعري وتمثيل المدن الكبرى الأمريكية والأوربية والإثارة الجنسية الرخيصة و غياب القرى الهندية في تاريخ السينما الهندية و التي جعلت تعرف فيما بعد ب”بوليوود” على طراز هوليوود
تعزز هذا التمثيل الغربي للرجال العرب من خلال الأدب و الفن و وسائل الإعلام و الخطاب السياسي. ترجم أولا أنتونيو غلاند كتاب ألف ليلة و ليلة إلى اللغة الفرنسية عام 1704. وشعبية هذه الترجمة الفرنسية تسببت في كثرة ترجماتها إلى اللغة الانكليزية في سنة 1706 من قبل مترجم مجهول ثم في سنة 1811 من قبل جوناثن اسكات ثم ترجمها إدورد لين بين 1838 و1840 ثم ترجمه جون لين سنة 1884. و من اللافت للنظر أن هذه الترجمات حذفت أو تصرفت كثيرا من أجزائها باعتبارها مشبعة بالعري و اللإثارة الجنسية والإباحية. كما تم استهلاك ترجمة شكنتلا كمواد جنسية إباحية، تزايد استهلاك ألف ليلة وليلة للامتاع الجنسي في المجتمع الغربي المحافظ بسبب قيودها الجنسية. صورة الرجال العرب التي تظهر من أعمال ألف ليلة و ليلة هي أنهم شهوانيون شرسون، جذابون عدوانيون جنسيا. تم تعزيز هذا النموذج النمطي للعرب بشكل كبير بظهور نوع أدبي لرومانسيات الشيخ في الغرب
السينما الهندية تعرف في عقود الاربعينات و الخمسينات و السبعينات بتمثيلها الحياة الريفية وكفاحاتها اليومية العامة ثم تحولت عدسات السينما الهندية من الريف إلى الحضر في الثمانيات ثم تحولت إلى المدن الكبرى الامريكية و الاوربية مثل نيويورك، شكاغو، لندن، برلن، بيرس، بارسلونا و غيرها. السينما الهندية كانت و ظلت أكثر محافظة في تمثيل الجنس و ما يتعلق بها بالنسبة إلى الأفلام المصرية التي تعرف في عقود الاربعينات و الخمسينات و السبعينات بكثرة تمثيلها الجنس و ما يتعلق بها ولم تستطع تحظى بشعبية كبيرة بسبب تركيزها المفرط على الجنس ومشاهد الإثارة الجنسية والإباحية والعري والفحش
الأفلام الهندية التي تحظى بأكثر شعبية و حصلت مكانة الأيقونات في العالم العربي هي: منكالا الهندية (آن) الأم الهندية أو أمنا الأرض أو من أجل أبنائي (مدر إنديا) طريق العمال (نيا دور) ملكة التحرير (جانسي كي راني) و دوستي و غيرها. هذه الأفلام لا تمثل الجنس بأي معنى ولا تشبع بمشاهد الإثارة الجنسية و العري و الفحش. استهوت هذه الأفلام فؤاد الملايين في العالم العربي لا بسبب إثارتها الجنسية بل بسبب قيمها الجمالية و الثقافية و السياسية و جودة إخراجها و حسن موسيقاها وأدائها
تبريز أحمد: باحث في المركز الثقافي العربي الهندي بالجامعة الملية الإسلامية في الهند